"فعل ماضي حاضر"
لتفاصيل عن يوم التوقيع 19 نيسان 2015 والتواقيع الأخرى:
http://amaromri.blogspot.com/2015/06/blog-post.html
أمّا أنا فأقول: "السّكوت من ضعف والكلام من قوّة"، وأفعل.
وتعبيري فقط من أجل تَحرُّري والتّغيير
في الذكرى ال 35 لولادتي ووفاتِها (20 نيسان 2015)،
خرجتُ عن صمتهم، تكلّمتُ وفعلت.
(إهداء من صديقي المُبدع محمد الزّين الفينيقي f)
هي أمّي وأنا ابنتُها وقد طبَع الصّمتُ المُظلمُ غيابَها فألبسَني سوادَه وقنّعني بحقائقَ مغلوطةٍ ملغومة.
غابت عنّي أمومتُها ليتلحّفَ عُمري بشُعوري بالذّنب تجاه موتِها مُقتنعةٌ "بأنّها أمّي وأنا قبرُها".
وفاةُ أمّي (أصغرُ أفراد عائلتها) بَعد أقلّ من ساعةٍ من ولادتي شكّلَ صَدمةَ العُمر لي ولهم.
انقطعَ الهواءُ عنّا فجأةً واندلعتِ النّارُ فينا فجأةً ووقَعنا في قبضةِ الموتِ فجأةً ولم يُسعِفنا الكلامُ لنَطلبَ النّجدة.
أنا الصّغيرةُ لم أكُن أجيدُ إلّا البكاءَ والانتظار،
وهم الكبارُ تحوّلوا فجأةً صغار ليودِعوا مع جثة أمّي ألسنتَهم ويوَدّعوا أسطورةَ فِعل الكلام.
بوفاتِها اختَفت أمّي تاركةٌ الكُلَّ حاضرين-غائبين في حالةٍ من الصَمم والبَكم.
عجزنا جميعُنا عن معرفةِ سببِ وفاتها ما أجّج في دَواخلنا شعورَنا بالذّنب، كلّ على طريقتِه.
هم تخلّوا عن مسؤوليّةِ البَحث والتفتيش عن سببِ وفاة أمّي الحقيقيّ
مُكتَفين بتَسليم صَمتِهم إلى إلهٍ جبّار يَحملُ على عاتقِه مآسيَ البشر وأفراحَهم،
لينطقَ من ثمّ لسانُهم بكلمةٍ واحدةٍ مُوحَّدة: "إنّها مشيئةُ الله"!
تنازَعت أطرافَ نَفسي مشيئةُ الإله المُجرم اللامنطقيّة من جهة،
ومن جهةٍ أخرى صوتُ امرأةٍ تزوّجها أبي بَعد أقلّ من تسعة شهور من وفاة أمّي،
متّهمة إيّاي بجهل وبصرامةٍ (لتُحكِم سيطرتَها عليّ)
بأنّي تسبّبتُ في وفاةِ أمّي لأنّي وُلدتُ أنثى وهي لطالما أرادت ذكرا"!
وما كان منّي إلّا تصديقُها ومعاقبةُ نَفسي بغيابي وأنا على قيد الحياة.
وقعتُ طيلة عمري أسيرةَ فراغي النفسيّ الداخليّ
ولم ينتشلني منه إلّا صوتُ الحقيقة، والصوتُ هو فعلٌ هو كلمة.
في العام 16 لذكرى وفاة أمّي وولادتي
قرّرتُ فجأةً أن أعقد اتّفاقيّةَ صُلحٍ مع ذاك الإله الذي سرقَ روحَ أمّي ليُثبتَ ذاتَه سيّداً على الأرض،
فسلّمتُه نَفسي ونذرتُ له جسدي وأنوثتي (سبب وفاة أمّي كما قيل لي وصدّقت)،
لعلّه يعيدُ إليّ حياتي-أمّي.
اتّفاقيّتي أعادت إليّ "كلامي"
أمّا المتكلّمون باسم الإله سرقوا وللمرّة الثّانية حياتي.
هناك خرقتُ جدارَ الصمتِ وسألتُ وللمرّةِ الأولى عن أمّي واسمُها هو "إسمي".
أسطورة ُ النسيان و"التطنيش" والتزام الصمت وعدم مُواجهة الماضي لسنين
توهِمُنا بأنّنا على أحسن حال،
تُلهينا بمظاهرَ خارجيّةٍ فارغة وداخلُنا مَوبوءٌ مريض.
أنا حين تكلّمتُ أدركتُ مَرضي وطلبتُ الشّفاء.
أسطورةُ المَشيئةِ الإلهيّة كما والدّين وأتباعه تُوهِمُنا بأنّنا دائماً على خطأ
وتوقِعُنا في فخّ الاتّكاليّةِ والتَبعيّةِ والعُنصريّة.
هكذا انبَهرتُ بثيابٍ برّاقة تحملُ اسمَ الإله وبجوّ عائليّ يُعوّضني عن ماضيّ الفارغ من التّواصل العاطفيّ والكلام،
وما أن أصبحتُ فيه ومِنه حتّى انجلت أمامي حقيقتُه وبانت
لأدركَ لاحقاً أن ما من اسمٍ للإله،
وأنّ من يحملون اسمَه ما هم إلّا بشرٌ عاديّون لهم نَواقصُهم وخَيباتُهم،
ولا يجوزُ تعميمُ أفكارهم وخبراتِهم فهي تَخصُّهم وحدهم.
بَعد صَدمتي قرّرتُ الرّحيل
تاركةٌ الإلهَ وأهلَه باحثةٌ عن ذاتي في أماكنَ أخرى،
فيما زمني مُتوقّفٌ في ماضيَّ عند الصِّغر.
بحثتُ عن ذاتي بين أهلي والنّاس ولم أجدها
فتركتُهم هم أيضا لأكرّسَ نَفسي للعزلة سنين طويلة.
بحثتُ عن أمّي عند الإله وعدتُ خائبة ثم بحثتُ عنها في أشخاص
ومع غيابهم وقعتُ متخيّبة.
في عُزلتي كتبتُ إلى أمّي، كتبتُ إليّ وعنّي، كتبتُ إليهم وعنهم
ورسمتُ مَشاعري وردّاتِ أفعالي.
شكّلَت كتاباتي ورسوماتي مِحورَ جلساتِ علاجٍ نَفسيّ تابعتُه لسنين طويلة.
تَعبيري بالكتابة والرّسم أنقَذني مراراً وتكرارا
ولكنّي لم أستعِد من خلاله ولمرّةٍ نهائيّة مَصدرَ قوّتي،
واستمرّيتُ بالتأرجح وفق الظروفِ المُحيطةِ بي وبمن علّقتُ عليهم آمالي.
اقتنعتُ لسنين أنّني لن أنجُوَ من مَوتي
إلّا بمقدار ما أبني لنَفسي في زمني الحاضر
طفولةً جديدة خاليةً ممّا شاب طفولتي في الماضي من صمتٍ وعنفٍ وفراغ...
لم أتخلّ عن قناعتي تلك رغم خيباتي المُتكرّرة،
فالزّمنُ يسيرُ إلى الأمام مستحيلٌ إيقافُه
ولا يمكنُ لأيّ كبير أن يعودَ بزمنه إلى الوراء ليرافقَنا ويلبّيَ حاجاتِنا وانتظاراتِنا.
أوجَعتني خيباتي وأدمَتني ولم يُنقذني منها إلّا صوتٌ نفسيٌّ
مؤكّدا لي أن لا أهميّة لما أعيشُه في الحاضر
إلّا بمقدار ما يرشدُني إلى خيباتي في مراحل طفولتي الأولى
حين كنتُ عاجزةً عن التّعبير والكلام.
صادقٌ عِلمُ النّفس فهو لا يوهمُنا بمظاهرَ حاضِرة
لا بل يُرشدنا إلى أصلِ الحقيقة وأصالتِها.
فعّالٌ التّغييرُ في حياتنا
عندما يتأتّى من مَعرفتِنا لذاتنا ومن مُواجهتِنا لفراغاتِنا الأولى
مُتسلّحين بقُدراتنا الداخليّة ومَواهبنا التَعبيريّة الذاتيّة.
في العام 2014 وبعيداً عن التأويلات الإلهيّة والمثاليّة،
خرقتُ جدارَ الصّمتِ من جديد وعاودتُ طرحَ أسئلتي على عائلتي والأقرباء
مُحاولةً إيجادَ أمّي بواقعيّتِها وحضورِها الإنسانيّ العاديّ...
حاولتُ معرفةَ ظروفِ حَملها بي وتَفاصيلِ وفاتها.
سألتُ عنّي وعن ظروفِ ولادتي وعن ساعاتي الأولى بَعد مَوتِ أمّي
وعن تَفاصيل وُجودي في بيتِ عمّي في أشهري التسعة الأولى
وصولاً إلى ظروفِ زواج أبي ثانيةً
وأخذي المُفاجىء العنيف الصّامت من حضنِ امراة عمّي
وظروف تربيةِ زوجتِه لي...
تَوقّف تَقدُّمي النَفسيّ على مدى مَعرفتي لذاتي ولأمَّهاتي وأوّلُهنّ أمّي "إسمي" التي ولدَتني.
بمَعرفتي لسبب وفاةِ أمّي الحقيقيّ
استيقَظت فيّ إرادةُ الحياة
وأعطيتُ لنَفسي وللمرّة الأولى الحقّ بأن أكون وأعيش وأثبتَ ذاتي
في مجتمعٍ لطالما عقّدَتني معتقداتُه ودمّرتني مثاليّاتُه.
عانت أمّي من عوارض تَسمُّم حَملِها.
في مجتمعٍ يَكرهُ الأولويّات ويعيرُ أذنَيه للصّمتِ وللكَماليّات،
سكَتت أمّي وتحمّلت بصبر أوجاعَها وربّما سكتَ معها الطبيبُ عن مسؤوليّاتَِه فتأزّمت حالتُها إلى أن ماتت.
لي مع الصمتِ رحلةُ ثأرٍ طويلة زادَته تأجُّجاً مَعرفتي للحقيقة.
عانينا جميعُنا من صمتِ وفاةِ أمّي وخاصّة نحن الصّغار (أنا وإخوتي)،
بعكسِ قناعةِ الكبار بأنّ الصّغير لا يفهمُ ولا يشعُر...
هذا هو المُعتقَدُ الذي نَتبنّاه نحن الصّغار غصباً عنّا فنَبنيَ عليه سيرَ حياتِنا
مُتخَلّين عن مَشاعرنا مُنشئين الأقفالَ حول ماضينا وانفعالاتِنا الحقيقيّة،
لنعيشَ بالتّالي في حالةِ انفصامٍ عن ذواتِنا،
تَكبُر أجسادُنا ونُفوسُنا أسيرةُ صَمتِنا.
بَعضُنا لا يَشعرُ بالحاجةِ إلى مُواجهةِ ماضيه
وبَعضُنا يَعجزُ عن المَضيّ قُدماً في أصغَر تَفاصيلِ حياتِه اليوميّة،
فيضطرَّ إلى المُواجهة،
في حال نَجاتِه من مُحاولاتِه أذيّة نفسِه ووَضع حدٍّ لحياته.
مُواجهتي لماضيَّ وأشخاصِه وأزمنتِه وأمكِنتِه
مَنحتني ولأوّلِ مرّةٍ شُعور تَصالحٍ مع نَفسي ومع مَن حولي
حتّى مع الطبيعة ومع مَفهوم الحياةِ عامّة.
شعرتُ بالحاجة لأن أثأر لنَفسي من كلّ هذا السُّكوت الذي زيّنَ حياتي
بمَظاهرَ فارغة وهدّمَ داخلي.
شعرتُ بالحاجة لأن أثأر لنَفسي من تلك الأقنعةِ التي ألبَسني إيّاها مُعتقَدٌ يُقدّسُ النّجاحَ المُزيّف والمثاليّات
ويَرمي بأسُس إنسانيّتِنا في العَدم.
شعرتُ بالحاجة لأن أكونَ على حقيقتي وأطرحَ بجرأةٍ أفكاري ومَشاعري وتَطلّعاتي وخُبراتي
في مجتمعٍ جُلّ تركيزه على موائد الأكلِ والمالِ والبيعِ والشّراء...
لملمتُ أوراقَ ذاكرتي وأخرجتُ للنّور ما كان طيَّ الكتمان،
وفي الذكرى ال35 لولادتي ووفاة أمّي
وقفتُ حاملةً صَوتي مباشرةً من أرضِ أشباحي وأحلامي، من قريتي الجنوبيّة،
مُعلنةً اختياريَ الحياة وتَشبُّثي بها
وعودتي إلى الأرض التي حملتني في أحشاء أمّي
وإلى البيت الذي لطالما أرعبَني فيه شبحُ أمّي.
دعَوتُ أهلي وأهلَ قريتي والمعارفَ والأصدقاء إلى التَعرّفِ إليّ عن قُرب
وتَقبُّلي رغم اختلافِ وُجهاتِ نَظرنا وتَناقضِ خُبراتِنا،
وأطلقتُ إلى العَلن قصّتي من خلال كتابي "فِعل ماضي حاضر"
(العنوان باللبنانيّة العاميّة ومَضمون الكتاب مَزيجٌ من الفُصحى والعاميّة
مع عدم الالتزام بقواعد اللغة بحذافيرها).
يحملُ كتابي اسميَ الجديد "قمر عمري"
الذي اخترتُه لنَفسي في العام 2011
متخلّيةٌ به عن موتي ومُتمسّكةٌ بحياتي
داعيةٌ الجميعَ لعَدمِ تَسميةِ أولادِهم إلّا بأسماء حياتِهم.
(غلاف الكتاب: من رسوماتي بعنوان "بَدّي مُوت"،
من سلسلة 9 لوحات سمّيتُها "أمّي"، من مَعرضي للتّعبير الحُرّ "لمّا مْنولد كبار"، عام 2009)
عجزَ أبي عن مُواجهةِ وفاةِ أمّي ولم يتقبّل غيابَها فأعطاني اسمَها
ليُبقيَها على قيدِ الحياة فأكونَ بنَظره "أنا هي".
في كتابي أدعو إلى مُواجهةِ المَوت بالتّعبير وبالحفاظ على الذكريات حاضرةً
وعدم إلغاء أثرِ أصحابها في النُفوسِ والبيوت...
اكتَفى أبي بعَرض صورةٍ لأمّي مع عائلتها (وأنا في أحشائها)
مَكتوبٌ عليها اسمُها "إسمي" وتاريخُ وفاتِها أي "ولادتي" وبعضُ صفاتِها المثاليّة،
ولم ينطق لسانُه ولسنين بكلمةٍ عنها.
اعتقدَ أبي أن ل"إسمي" وللصّورةِ مَفعولٌ سِحريٌّ في تَوطيدِ تَواصُلي مَعها ومع نَفسي وحياتي
فالتزمَ الصّمتَ دون أن يَعيَ فِعلَ أشباحِهما داخلي ومُساهمتِهما في تَدميري.
قالوا: [الكلامُ من فضّة والسّكوتُ من ذَهب]، وفَعلوا.
أمّا أنا فأقول: "السّكوتُ من ضَعف والكلامُ من قوّة"، وأفعل.
هذه هي كلمتي في فِعل كلامي
ودعوتي دائمةٌ متجددةٌ لتَبنّي الكلام والتزام المُواجهة بدل السّكوت والهُروب.
هل يفوقُ ألمُ المُواجهةِ الحقيقيّة لمَرّةٍ ألمَ مَوتِنا النَفسيّ في اليوم ألفُ مرّة؟
قمر عمري - "فعل ماضي حاضر"
3 حزيران 2015
تعليقات
إرسال تعليق
تعليق / Commentaire