جاهدة وهبه في مهرجانات دوما: أميرة ب لون الفرح





الموسيقى حضنُ وطني
والوطن الذي لا يُربّي أطفاله على الأصالة الفنيّة على أنواعها، يحفر لنفسه خُطوط الغرق

في وطني أقلّيةٌ من مُحبّي الأصالة
ولكنهم فاعلون بقوّة

من "دوما" إحدى أقدم القرى اللبنانيّة المُحافظة على تراثها علا صوتُ الأصالة:


إفتتح جمال أبو الحسن مهرجانات دوما ب "رؤى موسيقيّة" مساء الجمعة 29 تموز 2016  بالاشتراك مع
كورال الفيحاء بقيادة المايسترو باركيف تاسلاكيان، الفرقة اللبنانيّة للإيقاع "ليبرا" بقيادة المايسترو فادي يعقوب، مجموعة من العازفين وفرقة "مرحبتين" للرقص

بالإضافة إلى موسيقاه وألحانه - هو المُبدع اللبنانيّ - كرّم جمال أبو الحسن وطنه، وطني، وطننا لبنان، مُقدّماً مقاطع لكبار أمثال:
زكي ناصيف، وديع الصافي، فيلمون وهبه، فيروز، نصري شمس الدين، الأخوين الرحباني...


مُبدعات ومُبدعو وطني هم الراية
تَكثرُ المهرجانات في وطني ونحن لا تَهمّنا الكثرة بل النوعيّة

كلمة "مِهرجان" تعني بشقّها الأوّل "مِهْر" الشّمس، وبشقّها الثّاني "جان" الحياة أو الرّوح والمِهرجان الذي لا يخدمُ مَعناه تنتهي صلاحيتُه

أثبتت مهرجانات "دوما" سعيَها لخدمة الإبداع فالوطن فيما غيرُها كثُر يُساهمون في نقل عدوى الإنحطاط الفنيّ والثقافيّ

بَعد انتظار وصول الجماهير والأكثريةُ غير آبهين كالعادة بالمواعيد، أُعلنت بدايةُ الأمسية الثانية في نادي "دوما" بموسيقى مُفعمة بالحياة، وبَعدها بلحظات علا صوتُ نشيدِ وطني ليذكِّرَنا أنّنا أبناء الحياة

ها نحن ومن "دوما" نكتبُ إسم وطننا على الشّمس التي لا تغيب
وها هي أميرةٌ من وطني تدخل على وقع موسيقى ايلي شويري لتعطيَنا بإطلالتها الأمل بأنّ شمس الإبداع لم ولن تغيب
فصدحَ صوتُها مُكرِّماً وطن الأرز والصّنوبر وكباراً بلون الربيع، مُعلناً أن لا سلام إلا بالموسيقى وْ"مِشّ حَيّلا موسيقى"



[قال الصّدى لَلصّوت بِتْرَجّاك غنِّ بِ "دوما" ما حدا بْيِنْساك
يا صَيف "دوما" شُو حِلو مَلقاك
...........
مَطرح ما بيغَنّي الشَّجر بْغَنّي أنا وِيّاك وبْطير عَ جْناح الوَتر بلكي السِّنِة بِ "دوما" بْيَعطيني القمر ليرِة حَبق تَ إشتِري شِبّاك]
(جرمانوس جرمانوس)



هكذا حيَّت جاهدة وهبه "دوما"
وهكذا بدأنا على وقع صوتها والموسيقى وسحر الشّعر والأدب رحلة الغوص في ذاتنا والعودة إلى جذورنا
من يتّصلُ بذاته وبأسرار الطبيعة وكنوزها فيه ومن حوله يحيا أبداً خارج حدود الحروب والشرّ والكراهية

حملت الأميرةُ إلينا راية الحنين إلى أرضنا والانتماء
تأنّقت وتألّقت بألوان الوطن لتزرع فينا بذور من الفرح لا تذبُل

ب ثوبٍ من دم يفيضُ بأبيض ناصع بالحياة أرادت أميرةُ الصّوت أن تطأ المسرح وكأنّها لبنان(ي) قاهرُ اليأس والفساد






الأرزةُ أمامها وأشجار الصَّنوبر من حولها
كيف لا والأخضرُ والأحمرُ في عِلم الألوان يَتكاملان

الحياةُ في الطبيعة خضراء
وفي دم الإنسان وأصدقائه أرجوانيّةٌ حمراء

يُتقن أتباع الانحطاط في وطني إعطاءَ قيمةٍ للفراغ ك "لعبة السّجادة الحمراء"
فيما يُبدع آخرون ولو قلّة في رسم ثقافة المعاني والإنجازات الحقيقيّة، تماماً كما أبدعت أميرةُ وطني أمس هي وأعضاء فرقتها الموسيقيّة، بقيادة المُبدع اللبناني إيلي معلوف

من سعيد عقل لبنان إلى بديع خيري وسيّد درويش، هؤلاء الذين شحذوا همّة المُواطن وسطّروا قيمة الوحدة والبلاد، إنطلقت جاهدة بَعد أن رحّبت بجُمهورها من الأرض كلّها
ثم أهدتنا من كلمات طلال حيدر وألحانها أغنية "يا ريت فيّي إنهدى"، مَحبوبة الجماهير

وَالوقتُ كالسّيف........... والعُمر صار جنون




الموسيقى حضنُ الثقافة
[فالغِنا سرُّ الوجود وأنينُ الناي يَبقى بَعد أن يفنى الوجود]
وكما قال لي أخي بَعد انتهاء الأمسية: "حلو الواحد يْعَبّي راسُو من وقت للتّاني"

يعودُ الإنسان إلى أرضه والتراب وتَبقى آثارُه وإنجازاتُه واكتشافاتُه وفنونُه، على أنواعها. تنتهي الأمسياتُ الموسيقيّةُ الأصيلة ويبقى أثرُها في نفوسنا وأمام أعيُنِنا واضحاً جليّا

يحفرُ صوت جاهدة بقوّة في مشاعرنا وخيالنا تماماً كصوت البزق والناي والرقّ والكمان.......... وتمنّينا لو سمعنا صوت القانون أكثر


راق لي اختيارُ الأغاني وتَسلسُلها فشعرتُ بلحمةٍ قويّة مُتقنة
هي راحةٌ استثنائيّةٌ في الأداء تميّزت بها أمسيةُ "ليل... وآه" للأميرة جاهدة وفرقتها في "دوما"، ساهم بلا شكّ قائدُ الفرقة إيلي معلوف في تَعزيزها، فكلُّ عملّ موسيقي جماعيّ جبّار كهذا بحاجة إلى قائد مُخضرم، مُحترف وأصيل قد تشرّب الموسيقى مع نسيم الأرض والحنين

القائدُ أساس ولكنّه غيرُ كاف إذا لم يتناغم وأعضاء الفرقة وتَمكُّنهم من أدوارهم ومن العزف على آلاتهم أو بأصواتهم

بالطبع تبدو دَوماً واضحة ثقة جاهدة بنفسها وبقدرات صوتها إضافة إلى موهبتها في السّيطرة على المسرح والحفاظ على حماسة الجمهور (نحن) وامتلاك تركيزنا واستمتاعنا. ولعلّ إطلالتَها المُميّزة أمس منحتها جرعةً كبيرة من الشّعور بالفرح والحرية فتراقصت بفرح وخفّة على أنغام الأوتار والكلمات وصدح صوتُها عالياً في سماء دوما وعميقاً في أرضها وفي أنفاسِنا



"نقلةٌ" أخرى من ألحانها لكلمات رابعة العدوية "أحبّك حبّين" إلى مجموعة مُختارة من أغاني صباح في تحيّة إليها
الموسيقى هي الجامعةُ العربيةُ والدوليّةُ الحقيقيّة و"حبلُ سُرّة" بين الأجيال


في الأمسيات الأصيلة لا نسمعُ كلاماً مُبتذلا عن الحبّ وسطحيّته والذي تعجّ به أفواه المحطّات والإذاعات، ولا نغرقُ في ألحان متشابهة صاخبة فارغة من موسيقاها
وها هي جاهدة وفريق العمل قد اختاروا لهم ولنا أغانٍ غنيّة ب المعاني الإنسانيّة العميقة
"ليش"؟ لأنّنا بأمسّ الحاجة إلى نفَس موسيقي ثقافي حضاريّ حقيقيّ في عصر يخنقنا بمظاهر الإنحطاط والإسفاف
[ليش لهلّق سهرانين؟] "لأنّو ما فينا ما نُحضركُن ونستمتع وعَ جناح الموسيقى مِنْلاقي حالنا ومْنِتذكّر أحبابنا ومُبدعينا
....................
وعَ ضيعة "دوما" تْعرّفنا وانبسطنا
كلّ حدا يرجع على ضيعتو، المدينة اختنقِت فينا وخنقِتنا
...
وهيك رح تشرق شمسنا من جديد
بُكرا بْعيد، خلّينا اليوم نِرجع"






من "صَبّوحِتنا" وَممّن كتب لها ولحّن لها إلى ميشال طراد والأخوين الرحباني ووديع لبنان الصافي

[غصن، عصفور، ورق، فيّ، نبعات، "ريشة نور" ونسمات، كوخ من وزّال، زهور وعنبر، حبّ الندي الأخضر، عريشة وباب..... وكتاب!
القمر والتلّة.... شي قشّة وشي نقطتين تراب]

كلماتٌ، كائناتٌ، طبيعةٌ وحقيقةٌ في مهبّ "ريح التكنولوجيا"
صورٌ شعريّة في سوق الإنقراض
!!! !!! !!!




حيّت جاهدة والفرقة الموسيقيّة المبدع اللبناني الياس الرحباني وقد حضر أمسيتي "دوما" لدعم أصدقائه المبدعين جمال وجاهدة، فقدّما له التحيّة كلّا منهما على طريقته:

في "رؤى موسيقيّة" غنّى كورال الفيحاء أغنية "حنا السكران" (كلمات الأخوين الرحباني ولحن الياس الرحباني) دون مرافقة الآلات الموسيقيّة. وفي "ليل... وآه" عزفت الفرقة موسيقى "ميس الريم 2" ل الياس الرحباني
 - لم أشعر بتناغم اختيار هذه الموسيقى مع البرنامج ككلّ -

لتعود بَعدها الأميرة إلى المسرح مع تحيّة للجيش اللبناني، بأغنية "لأنّك حِمانا"
(كلمات هنري زغيب ولحن جاهدة)

يكاد صوت جاهدة يعلو ب سِحر لوحده عندما تكون التحيّة لجيش لبنان، وهي إبنتُه
[وْكِلّنا إلك] شو بتحتاج مِنّا كِلّنا لفِعل حقيقي ووعي ومسؤولية.........




ومن حُبّ الوطن وحُماته إلى [بِتْنكّر لَ وطني لَ أصحابي وزمني إذا إنتَ بَدّك هَيك]!
... إذا إنت بدّك هيك....... إذا إنت بدّك هيك


"
ساحرةٌ" هذه الأغنية تُناقضُ كلماتها حريّة المرأة فيما ينسابُ لحنُها بعذوبة وتناغم مع اللهجة اللبنانيّة العامّة. كيف لا وأميرةُ الشّعر والإلقاء هي من تُغنّيها

للوهلة الأولى تفاجأتُ رغم انجذابي لطابع الأغنية العام
كيف أتحمّلُ سماع أصوات الخضوع ونسيان الذات (على لسان أغنية) في سبيل الحُبّ والحبيب؟ أنا التي أقدّسُ الحريّة والاستقلاليّة. فِكري وحريّتي فوق كلّ اعتبار

وفجأة وبَعد العديد من ال"إذا" وال"شو ما صار" يلمع سؤالٌ في الفضا:
[يا حُبّي قولَك رَح تِبقى تْحِبّني؟]

"وهنيئا ل يللّي "فهمِت" منكُنّ. أنا  مِنّي وعْليّي من زمان فهمت"



من أزمة الحُبّ الواقعيّ في "نشيد الحبّ" ل إديت بياف (ترجمة جاهدة وهبه وماجدة داغر) - وقد وقف الجمهور وطلب إعادتَها! هل لأنّها في الأصل ل بياف؟ أو لأنُّن مْلوّعين من نتيجة ال"إذا" وال"شو ما صار"؟  -

إلى أزمات الحبّ الرومنسيّة العجيبة في الشّعر العربي والأذهان العربيّة، ومقاطع من [يا حبيبي تعال الحقني] ل أسمهان، [جفنه] لمحمد عبد الوهاب، [إنت عمري] ل أم كلثوم


تتفوّقُ الموسيقى في السّيطرة على عقولنا ونفوسنا، فيما يَسحبُنا الكلام بالإجبار إلى الخنوع والخضوع، تحت قانون ما يُسمّى ب "الحبيب السّلطان والمُعيل"

الوعي هو القانونُ الفِعلّي الحقيقيّ
الذي نحتاجُ العمل بموجبه في زماننا ومكاننا

- "الحلو مع جاهدة والفرقة إنو التوزيع الموسيقي جذبنا وبَطّلنا كتير مْركّزين عالكلام" -
نادرٌ وجود الفرق الموسيقيّة اللبنانيّة التي تعتمدُ قانون التوزيع، توزيع الأدوار والتقاسيم والآلات... فالمبلغُ المُخصّص عادة للمُوزّع باهظٌ (لربّما أيضا بين الأصدقاء)، لا تستطيع تغطيتُه الفِرقُ القائمة على مُبادراتٍ فرديّة

سمح لنا القيّمون على مهرجانات "دوما" الاستمتاع في ظلّ "قانون التوزيع"








اختارت جاهدة باقة منوّعة وغنيّة بالكلمات والألحان وبدا واضحاً التحضير المُسبق الجادّ للأمسية، حتّى تركت فينا هذا الأثر العميق

تنوّعَ جمهور جاهدة كما تنوّع برنامج الأمسية
تنوّعٌ عزّز فينا شعوراً بالوحدة مع ذواتنا، مع من حولنا، مع الطبيعة وكلّ الكائنات

الموسيقى هي الوحدة، هي السّلام، هي الأمان
الموسيقى هي الحبّ، هي الحنان
الموسيقى هي القوّة، هي الحصن، هي البديل والدليل
... ... ...
لا؟ "مْبَلا"

في البداية حيّت جاهدة "دوما" حامية التراث وراعية الإبداع
وفي الختام حيّت الإنسان الشّجاع الذي يمشي قُدما غير ملتفت إلى الوراء
[لا تمضِ إلى الغابة]، أيضا من ألحانها وشعر غونتر غراس
ولكلّ منّا غابة

يقولون لا تقُل "لا" بالمطلق
الإنسانيّةُ واحدةٌ أمّا النّاس فكما يتشابهون يختلفون

الإلتفاتُ إلى الوراء أحيانا قوّة
أيُّ "وراء" مثقوبٍ يُعاود التقدّم وراءنا، ريثما نتوقّف ونعيرُه اهتمامنا عاملين بجدّية على رتء الثقوب وبناء الجسور إذا ما كان الفراغ فينا أصيلا

يخالُ المُشاهد كشاعر الأغنية غونتر غراس أنّنا نهوى الرّجوع إلى الوراء والبكاء على الأطلال، وفي الحقيقة نحن عطشى ل سلام تَشظّى فينا وفقدناه
بمواجهة "الوراء" نحظى بنعمة "الوعي" ونرتقي إلى شعورنا بالمسؤوليّة. آنذاك بإمكاننا أن نمضي إلى الغابة ونشرب من البحر، أن نبني لنا بيوتا ونكتب رسائل، وأن نكون بالتالي أهلاً لتحمّل المسؤوليّة مهما كانت نتائج التجربة
لا يتقدّمُ من لا يُجرّبُ بنفسه


لا يولدُ كلّ موهوبٍ مُحترفاً  بل يحتاجُ للوقت والمُمارسة والتعلّم والخبرة لامتلاك أدواته

تغتني الموسيقى بالكلمات أو تضعف
يغتني الفضاء الموسيقي بالتنوّع والاختلاف، على أن يبقى الهدفُ الإنسانيّ منها  وفيها واضحاً




 


تمتّع أعضاء الفرقة الموسيقيّة بروح "الفِرقة"وجمَعُهم وجاهدة تناغمٌ وانسجام، فطربوا لصوتها وأجادوا في عزفهم وتقاسيمهم. كان الختام إنسانيّاً ومُبدعا بامتياز حيث عزف كلّ منهم منفردا للتعريف عن نفسه، فاسترجعنا حقّنا في سماع كلّ الآلات بالتساوي

- في البداية فاجأني صوت الإيقاعات الصّاخب الطاغي على الأصوات الباقية... أحبطتُ وتبيّن لي فيما بَعد أنّها مشكلةٌ تقنية مؤقّتة في "هندسة الصوت" -

إيلي معلوف: بيانو، بزق وميلوديكا
نهاد عقيقي: قانون / ناجي عازار: كمان / جوزف كرم: ناي
شاهان كيلاغبيان: غيتار باص / إيلي يمّوني: إيقاعات / غابي كرم: إيقاعات

كورس: إيلي حنّا، شربل عيد، يارا الضهر، تمار الضهر، هنادي فغالي
إدارة وتنسيق: جانا وهبه


وحضور الأخوات والأقارب والأصدقاء قوّةٌ إضافيّة إلى جاهدة في أعمالها وأمسياتها




[لا نَخف على الغناء. لا نَخف على الفنّ. لا نَخف على الشّعر.
لا نَخف على اللحظات النادرة. سوف تظلّ قليلة وسوف تظلّ تملأ العالم]
أنسي الحاج (من كُتيّب الأمسية)




شكرا لكلّ من ساهم في تألّق "ليل... وآه"

شكرا لَلمْصوّر اللي كان واقف بْ وجّي كلّ الوقت وما خلّاني شوف إيلي مليح
شكرا لمهندس الإضاءة اللي عَماني لبعض من الوقت









أخافُ أن تُمطر الدنيا ولستِ معي، فمنذ رحتِ وعندي عقدة المطر
...  وكانت الريح...
فتهمسين تمسّكي ها هُنا شَعري
... ... ...
وأنتِ في القلب مثل النقش في الحجر


نزار قباني

تعليقات